لا أعلم إن كان لفظ “مغتربة” ما زال صالحاً في عصرٍ تقنيٍ أصبح البعيد فيه أقرب من القريب، لكنني أعلم أنّ عُرف الحياة أسماني كذلك، حتى وإن قادني القدر إلى مدينة آمنة وجميلة، فماذا عشت في إمارة دبي؟ وما هو انطباعي عنها بعد ثمانية أعوام؟ هذا ما سأرويه لكم منذ لحظة الانتقال في حرّ آب وحتى اليوم، وما بينهما حكايات ونصائح لكل من يعتزم السفر إليها بحثاً عن العمل والاستقرار، وكل ما ستقرأونه هو نتيجة تجربة شخصية بحتة، بدأت تظهر إيجابيتها مع دخول المطار المنظم بشكل فائق، حيث تُنهي كافّة أمورك خلال دقائق، ويقابلك الجميع بابتسامة واحترام.
صدمة الصيف
لم تكن كبيرة في الواقع، لكن من يسمع عن حرّ الخليج ليس كمن يعيشه، ويجد نفسه متنقلاً فقط بين أماكن مغلقة، فمن المنزل إلى السيارة إلى المكتب إلى المول، وما بينها لفحات حرّ لا تُغتفر، لكن مع دخول الشتاء تكتشف كم أنت محظوظ بجمال المدينة، فمن نوفمبر وحتى أبريل قد تكون الأشهر الستة الأجمل بين مدن العالم والأكثر جذباً للسُّياح، فاعتدال نهاراً ونسمات صحراوية باردة ليلاً، مع بعض الأمطار اللطيفة بين فترة وأخرى، وخيارات لا تعد ولا تحصى من أماكن الترفيه الخارجية بأسعار تناسب كافة الفئات.
قبل البحث عن عمل … تحصّن بالإنكليزية
بدأت اعتياد الحياة أحببتها جداً، واستقرت قواعدي أكثر بعد حصولي على رخصة القيادة، فانطلقت في رحلة البحث عن العمل الذي كنت أعتقد أنه تحصيله سهل لمن يمتلك الخبرة والشّهادة في هذه المدينة النابضة بالأعمال والاستثمار، لكنني فوجئت بأمرين، أولهما أن إتقان الإنكليزية المطلقة أمرٌ لا يمكن تخطّيه بتاتاً، وستعاني جداً من دونه، فابدأ بالدّورات الآن ولا تتهاون. ثانياً، مصداقية بعض مواقع التوظيف التي لا يؤمن بها كثيرون، لكن إن تابعتها باستمرار قد تحصل على عروض مناسبة، حاول أن تقرأها وتفهم تفاصيلها جيداً لتدرك ما لك وما عليك، فغالبيتها بالإنكليزية، والكلمة الواحدة تصنع فرقاً.
سهولة الخدمات وتوفّر المرافق لحياة كريمة
وهو أكثر ما نبحث عنه في حياة صعبة وذات بيروقراطية معقّدة، فتمتار دبي بأن ٩٩٪ من خدماتها أصبحت تُنجز الكترونياً خلال دقائق، تلافياً لطوابير العُملاء والأوراق المكدّسة التي اعتدناها في معظم الدول. فباستطاعتك عبر التطبيقات، توصيل المياه والكهرباء والهاتف والانترنت ودفع فواتيرها، تجديد الترخيص والتأمين، دفع مخالفات المرور، إنجاز المعاملات البنكية، طلب مركبات الأجرة وخدمات الشّرطة، إعادة تعبئة عبوّات المياه والغاز وخدمة تنظيف المنازل وطلب المربيّات اليومية، حجز المواعيد الطبية ودفع الرسوم المدرسية وتعبئة الوقود عبر مركبة متنقّلة تصلك أينما كنت، وطلب الطعام والمواد الغذائية والملابس وغيرها من المستلزمات.
ومن الأمور الرائعة، سعي الحكومة إلى توفير فروع لمؤسساتها الخدمية قرب كل تجمّع سكاني أينما كان، مثل دوائر الهجرة والإقامة ومراكز الشرطة وخدمات البلدية والطّرق والمواصلات والمستشفيات وغيرها، وذلك لتخفيف المركزية التي تولّد ضغطاً على الموظّف والعميل في حال وجود دائرة واحدة فقط.
أما إن تواجدت في الساحات العامة والشواطئ والمراكز التجارية، فآخر ما يمكن أن يشغل بالك هو البحث عن موقف لمركبتك أو دورة مياه أو انترنت مجاني أو أماكن لشحن هاتفك أو ألعاب لأطفالك أو مواصلات أو ماكنات صّراف آلي أو مسارات خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، فكّل هذا متوفّر بخيارات أكثر مما تتخيّل.
تكاليف المعيشة
من المعروف أن تكاليف دبي الأساسية مرتفعة نوعاً ما مثل السّكن والتعليم، وكذلك بعض الخدمات المُرفقة بضريبة القيمة المُضافة البالغة ٥٪، ولعلّ ما يبرر ذلك – إن صحّ التعبير – هو سهولة الخدمات وتوفّرها بشكل مثالي وكثرة وسائل الترفيه، كما استعرضنا في المحور السابق، لكن كيف يمكنك الادّخار مع راتب متوسط؟ في ظل مُغريات المعيشة وسهولة الاقتراض؟
بحكم تجربتي سأجيبك بشكل عملي، لنفرض أنك متزوج ولديك طفل مقبل على دخول المدرسة وحصلت على عقد عمل في دبي ب١٠ آلاف درهم أي ٢٧٠٠ دولار أمريكي، عليك أن تفكرّ في السكّن على أطراف الإمارة الأقل كُلفة، أو في إمارة أخرى مثل عجمان والشارقة. ولمواصلاتك لديك خياران، الأول استعمال وسائل مثل المترو والترام ورسومها رمزية جداً، ولا تفكّر بارتياد التكاسي لارتفاع كلفتها، والثاني هو امتلاك مركبة مستعملة وهناك آلاف الخيارات بأسعار مقبولة جداً، ولا تقلق بشأن سعر الوقود فهو في متناول اليد بالنسبة الى معظم مدن العالم، لكن كن جاهزاً يا عزيزي للأزمات المرورية في ساعات الذروة بين ٦-١٠ صباحاً وبين ٤-٩ مساء.
أما بالنسبة إلى الموادّ الغذائية فهناك الكثير من الجمعيات ومراكز التسوق التي توفّر عروضاً على مدار العام، فضلاً عن البقالات الصغيرة المتواجدة تقريباً أسفل كل عمارة سكنية، فهذا يوفّر عليك أكثر من تجربة التسوق في المولات التي حاول الاستفادة منها في التنزيلات المستمرة، ومع الوقت ستتعرف على مراكز مناسبة لميزانيتك بجودة ممتازة.
أما التعليم فلن تستطيع بهذا الراتب التوجه إلى المدارس الأميركية والبريطانية إلا إذا كانت مغطّاة من مكان عملك، فهي في عموم العالم مرتفعة التكاليف، لذا فخيارك هو المدارس الحكومية (الوزارية) التي توفّر نظاماً تعليمياً ممتازاً بكلفة أقل. نصيحتي في موضوع التكيّف المالي، هي أنك وحدك القادر على التحكم بطريقة حياتك ونفقاتك، فالراتب وإن كان ٥٠ ألفاً ولم تنفقه باعتدال وعقلانية، لن يكفيك وستجد نفسك نهاية الشهر من دون أي ادّخار يذكر.
الأمن والأمان واستجابة الشّرطة
القانون في دبي صارم جداً، فلا منازعات في الأماكن العامّة ولا إلقاء للنفايات في الشوارع ولا قطع لإشارة حمراء ولا تهاون في وضع حزام الأمان أو الكمّامة حالياً في ظلّ كورونا ولا تجاوز لحدّ السرعة، وإلا ستطبّق عليك مخالفات مرتفعة واجراءات تأديبية قاسية. دوريات الشرطة في كل مكان، وإذا أوقفت مركبتك لأي سبب كان، خلال دقائق تصلك دورية وتظل معك حتى حلّ المشكلة. نسبة أمن وأمان عالية جداً وهو أكثر ما يبحث عنه الإنسان، تسير وحدك في الشارع وإن كنت فتاة من دون خوف لا من معترض أو سارق أو متحرّش، ٨ سنوات لم أصادف هذه الأمور قطعاً، فنصيحتي إن كنت قادما من بلد متهاون في هذه الأمور حاول أن تعتد على الانضباط أكثر…
باختصار يا أصدقائي هذه دبي في عيوني، وهذه حكايتي، فخذوا الفائدة منها، وحاولوا ضبط أنفسكم لتتكيّفوا مع الحياة التي أقل ما تشعرك به في هذه المدينة ،أنك إنسان بلا تمييز.
اضف تعليق