Photo by Hisham Zayadnh on Unsplash
بقلم إسلام سائد
الحياة شريط والذكرى محتواه والماضي صفحاته ، قد نكتب نحن جزء مما يحدث فيه و قد يفرض البعض علينا لنتابع المسير، في هذا المقال سوف اشارك واحدة من أكثر التجارب تأثيراً في حياتي و هي تجربة الانتقال من احدى قرى محافظة إربد الى مدينة من مدن العاصمة عمان.
من أنا ؟
أنا إسلام سائد من الأردن ، أبلغ من العمر اثنين و عشرين عاما و حاليا انا طالبة جامعية أدرس تخصص الطب البشري في الجامعة الأردنية ، قبل أربع سنوات انتقلت من قرية إبدر في مدينة إربد إلى منطقة حي نزال في العاصمة عمان و أحببت مشاركة هذه التجربة لتكون تصور و رؤية لكل من يرغب في خوض غمارها ، ليس من المشترط أن تكون تجربتك نسخة اخرى من تجربتي لأن لكل منا بصمته الخاصة، و لكن باختلاف الأماكن و الشخوص الحياة تكرر نفسها دائما ، و طريقة تعاطينا معها هي ما يغير دفتها و حسب.
تجربتي في الانتقال من إربد إلى عمان
لقد ولدت و عشت في قرية إبدر في لواء بني كنانة حيث الحياة الريفية نوعا ما ، و لم يكن هناك أي ذكر لفكرة الانتقال لسنوات عديدة فأبي أيضا و أجدادي ولدوا هنا ، و لكن أمي كان لها رأي آخر فهي تفكر في مصلحتنا دائما ، و بعد أن قبل أخي في جامعة البلقاء التطبيقية في مدينة عمان و بعد سنة قبلت في الجامعة الأردنية في العاصمة أيضا. بدأت تلح على أبي بفكرة الانتقال بين الحين و الآخر.
كان عمل أبي دافعا لها أيضا ، فهو لم يكن مزارعا و كان يعمل كفني كهرباء و لطالما قالت بأن عمله سيزدهر في عمان ، و لكنه لم يكن بحماسها دائما إلا بعد أن اقترب موعد التحاقي بالجامعة فقد أصبح يفكر بالأمر جديا و في احدى سهراتنا العائلية أخبرنا بأنه قد وجد منزل مناسب للإيجار في حي نزال و أننا سننتقل قريبا.
لم أكن أحد المشجعين أو المتحمسين للانتقال و لم ارفضه أيضا. كنت حائرة و حسب… على عكس إخوتي و أمي اللذين بلغ حماسهم عنان السماء أو أبي الذي بدى و كأنه سيفارق الحياة و ليس قريته.
مر الأسبوع سريعا و انتقلنا لمنزلنا الجديد ، كان أول ما لم يعجبني هو أننا سنسكن في عمارة سكنية مكونة من أربع طوابق ، أنا لا أحبذ العزلة عن الناس و لكنني لا أحب القرب هكذا أيضا، حاولت أن أخفي عدم إعجابي ببيتنا الجديد بابتسامة متكلفة حتى لا أضغط على أبي الذي كان في حالة مزرية قليلا ، لكنه ما لبث أن تعود بفضل أمي طبعا فالزوجة الوفية هي التي تستطيع أن تزرع الجمال في قلب الرجل أينما كان.
لقد تقوقعت على نفسي في أول أسبوع إن صح التعبير فلم أكد أغادر المنزل إلا لساعات قليلة حيث ذهبت مع الأسرة لتناول العشاء، لكن على الرغم من وجودي في غرفتي فقد لاحظت الاختلاف ، أنا فتاة تعشق الهدوء أو أنني معتادة عليه بشكل لا يصدق لم تكن إبدر هادئة تماما و لكنها لم تكن بهذا الإزعاج أيضا ، لقد اصبت بالصداع الشديد بسبب الإزعاج عدة مرات و كانت أمي تقول بأن هذا بسبب التغيير و حسب و بالفعل تعودت تماما على هذا بعد اول شهر.
كانت حياتي الاجتماعية في حالة يرثى لها ، لنقل بأن العلاقات هنا تختلف تماما فالقرى في الأردن دائما ما تميل إلى التكوين العشائري ، لذلك ستجد أن أكثر من تسعين بالمئة من السكان تجمعهم الروابط الأسرية قبل روابط تشارك المكان ، و هنا الأمر مختلف تماما ستجد أناس من مختلف المنابت و الأصول و شبكة العلاقات الاجتماعية في المدينة أضعف بكثير من تلك التي في الأرياف ، لم يعجب هذا الأمر أبي كثيرا فرؤية أناس جديدة كل يوم أشعره بالتوتر على حد وصفه لكنني أحببته ، صحيح بأنني عانيت أولا بسبب خوفي من الرفض من قبل البقية و بصراحة تامة كنت أشعر بشيء من الخجل لربما من أسلوب كلامي أو طريقة لباسي التي لم تشبه ملابس معظم الفتيات هنا لذلك تجنبت اللقاء أو الحديث مع أحد، لكن اكتشفت لاحقا بأنه من المخجل التعثر مرتين بالحجر نفسه.
لم أستغرق وقتا بعدما قررت التمسك بكل تفاصيلي و أن أكون فخورة بها حتى اكتسبت عدة صديقات من الجامعة و من الجيران و لا أرى أن أبالغ بقول أن الجميع تقبلني أو أنني تقبلت الجميع ، فنحن بشر و لا يشترط أن نتوافق مع كل من نقابله . على العكس مني أخي الأكبر استغرق وقتا طويلا حتى تمكن من الاعتياد على الوضع الجديد ، و لم أره مع أصدقاء جدد إلا بعد عامين من انتقالنا.
كان فراق صديقاتي مأساة في البداية حتى أقنعت نفسي بأن الحب ليس أن تكون بقرب من تحب ولكن الحب أنك في قلب من تحب و هكذا كانت صديقاتي التي لم أقطع صلتي بهن حتى اليوم .
على الرغم من أن تكلفة الحياة هنا مرتفعة مقارنة بالسابق، إلا أن عمل أبي ازدهر قليلا كما تنبأت أمي و أيضا أنا و أخي وجدنا عملا إلى جانب الدراسة ، كان هذا ضروريا لنواكب الحياة و متطلباتها هنا.

إيجابيات الانتقال
هناك من يتذمّر لأن للورد شوكاً و هناك من يتفاءل لأن فوق الشوك وردة ، لذلك سنكون من النوع الثاني و نذكر أهم ما قد تجنيه من هذه التجربة .
١- جيبتك ستكون أكثر سعادة
هذا لا ينطبق على الجميع ، فمن الخداع القول بأنك بمجرد أن تنتقل ستمتلأ جيبك بالنقود و لكن الفرص ازدادت كثيرا فأنا واثقة بأنني لو لم أنتقل إلى عمان لم أكن لأفكر حتى بالعمل إلى جانب الدراسة فالفرص في القرى محدودة كثيرا ، بالتالي الخيارات محدودة أيضا.
٢- تجارب أكثر
إن الخبرة تكتسب بالتجربة فقط ، و إذا بقي الإنسان في منطقة الراحة الخاصة به لن يتطور قيد أنملة ، و عمرك يقاس بتجاربك و ليس بعدد الأنفاس المتماثلة التي دخلت رئتيك سنوات و سنوات. بعد انتقالي تعرفت على أناس جدد و أساليب و عادات جديدة أيضا ، صحيح أنني لا أزال في الأردن و لكن لكل فئة في أي مجتمع أسلوبها الذي يختلف عن غيرها و بقدر ما تتعرف على أساليب جديدة بقدر ما ستزداد قدرتك على التكيف في أوضاع جديدة ، و لأنني أخطط لإكمال الاختصاص في الخارج بعد أن انهي دراستي الجامعية فهذه التجربة ستكون بمثابة حجر الأساس للتجربة التي تليها.
٣- أنشطة متنوعة
أن ترى شيئا جديدا في كل مرة تتجول بها في نفس الأماكن شيء رائع ، و قد جربت هذا عدة مرات فبدل فعل نفس الأشياء و زيارة ذات الأماكن ، ستكون لديك الفرصة لممارسة أنشطة أكثر تنوعا في عمان ، صحيح أن مدينة إربد أيضا تزخر بالأنشطة و الأماكن و لكن التغيير هو ملجأ كل من يحب خوض التجارب مثلي تماما.
٤- عناء المواصلات
في الواقع أنا لا ستطيع حتى التخيل بأنني سأكون مضطرة لقطع المسافة التي نقطعها لزيارة أقاربنا في إبدر كل يوم من أجل الجامعة ، إن أكثر ما أمقته هو قضاء ساعات في السيارة لأصال إلى غايتي ، هذا غير عن الوقت المهدور و الجهد الضائع و التكلفة الإضافية ،و لا أتخيل أيضا أن أقطن في سكن بالجامعة فالعائلة جزء من يومي لا أستطيع الاستغناء عنها و أبي يرفض هذه الفكرة أيضا.
سلبيات الانتقال
١- الحنين
على الرغم من التكيف مع الحياة الجديدة إلا أن فقد كل ذكرياتي في إبدر كان شيئا مريعا ، أن تفقد أيامك التي عشتها عدة سنوات و أصدقائك و أقاربك و حتى الكلمات التي لا يفهمها إلا سكان القرى ليس بهذه السهولة و حتى الآن تنتابني موجات الحنين ببن الحين و الآخر.
٢- التوتر
قد يجد من لم يمر بهذه التجربة أن لا شيء يدعو للتوتر ، و لكن قد تمر أثناء تكيفك بنوبات منه بسبب الأشياء الجديدة كل يوم ، و حتى عندما أفكر بما فعلنا و هل أحسنا صنعا بانتقالنا و هل أن المكان يغيرنا و يمحو تفاصيلنا البسيطة كان كافيا لإثارة التوتر في داخلي .
٣- تكاليف إضافية
على الرغم من أنك قد تحصل على مال أكثر و لكنك ستصرف الكثير منه أيضا، فمثلا كان علينا أن ندفع إيجارا للبيت الجديد و زادت احتياجات الجميع بازدياد الخيارات أمامه ، و قد صرفت في شهرين متتالين على ملابسي ما كنت أصرفه في ستة أشهر كاملة في إبدر.
٤- وقت أقل مع العائلة
لقد كانت سهراتنا كل ليلة أمر مفروغ منه في إبدر ، و لكن عندما انتقلنا انشغل الجميع بعمله و نشاطاته الخاصة ، و بالكاد نجتمع في يوم الجمعة لنتبادل بعض الأحاديث و كانت أمي أكثر من شعر بهذا فقد أفسد عليها وردية حياتنا المدينة التي كانت تريدها.
نصائح من تجربتي
إذا لم تستطع تغيير نافذتك فغير إطلالتك ، إن طريقة تعاطينا مع الأمور تغير كثيرا في معطياتها و واقعها لذلك سأقدم لك خلاصة تجربتي بعدة نصائح في السطور التالية .
١- غير نظرتك
غير طريقة تحليلك للحدث ستتغير مشاعرك وانفعالاتك عن نفس الحدث ، هذا ما تعلمته طيلة أربع سنوات . الإنسان ليس مجرد جهاز مبرمج على النظر لكل شيء بطريقة واحدة لذلك علينا أن لا نسقط مبادئنا على كل شيء و أن ننفتح على العالم و نغير ما يلزم في أنفسنا لنواكب الجديد.
٢- لا تفقد نفسك
أجل كنت قد أسلفت بضرورة التغيير ، و لكن ذلك يشمل التغيير اللازم فقط فمن لا ماضي له لا حاضر له و لا مستقبل ، طريقة حديثك عاداتك و تقاليدك و أسلوبك طورها و لا تغييرها و كن فخورا بكل ما فيك ، إذا لم تتقبل نفسك فلن يتقبلك أحد و إن لم تحتضن أصولك فلن تحتضنك أصول الآخرين ، و المهارة هي أن تلبس نفسك وتتعطر بأسلوبك حتى عندما يكون منظرك غريبا وغامضا عند الآخرين.
٣- جرّب!
لا تعش حياتك في نمط معين ، عندما انتقلت من إبدر لم أكن أطيق فكرة الأكل خارج المنزل أبدا لكن اليوم أنا أعرف عدد كبير من المطاعم في عمان و أزورها كل نهاية أسبوع و أتعرف على المزيد منها كل يوم ، طعام أمي لذيذ و لا يقارن بغيره و لكن تجربة الأطعمة الأخرى ثرية أيضا.
٤- استغل الفرص
من يوفر فرصة يمكن أن يتطور بها هو الأحمق فقط ، قد لا تكون تخطط لفعل شيء و تصبح في خضمه فجأ ، و عمان فيها من الفرص الكثير و عليك أن تستغل منها ما يسمو بك و يحسن من ظروفك.
عندما تقتحم حياتك الظروف بلا إذن و تتركك في حيرة من الأمر، عندما تختفي منك ملامح الفرح و تجرعك الحياة التغيير بلا سابق إنذار، عندها لا تتوقّف وتغلق على نفسك الأبواب و تتهم الحياة بظلمك و الإجحاف في حقك، انظر إلى الحياة من خلال نافذة ملوّنة ستجد أن هذا الكون واســع ومـبـهــر وجميل و أن الحياة تتسع لكل ما هو جديد، كل يوم هو صفحة من قصة حياتك و طالما أنك تتنفس فالكتاب لم يذهب لدور النشر بعد تستطيع التعديل عليها ، لقد تعلمت أن الأمس هو شيك تم سحبه ، والغد هو شيك مؤجل، أما الحاضر فهو السيولة الوحيدة المتوفرة لذا فإنه علينا أن نصرفه بحكمة.
اضف تعليق