بقلم منذر عدواني
“قد يعترينا الفشل ويحبطنا، قد نلقى عكس ما توقعنا، في هذه الحالة هل علينا أن نقابل كل ما هو قادم بالتشاؤم عملاً بقاعدة (إن لم تكن تنتظر نجاحًا من الأساس فلن يحبطك الفشل؟)”
من إحباط كبير إلى نور آخر النفق
كان شهر سبتمبر من العام ٢٠١٨ بريق الأمل الذي لاح أمامي فجأة، فبينما كان تفكيري وحيرتي حول اقتصاد العائلة المتواضع جدًّا، كنت دومًا أؤسس لدراسات جدوى افتراضية وتحليلات يضمرها يعقوب في نفسه، بحثًا عن فكرة مشروعٍ يخدم العائلة ككلٍّ في سبيل توفير مدخولٍ معتبر يمَكِّنني من مواصلة شغفي الدراسي براحة وتفرغ تام له، لم يكن في ذلك الوقت مشروع محل أو كشكٍ صغيرٍ فكرةً سيئة كبداية، لكن رأس المال الكافي كان الغائب الأكبر.
مع منتصف الشهر أعلنت إحدى دور النشر المعروفة في بلدي تنظيم مسابقة روائية بجوائز ماليةٍ وأوسمةٍ ومناصب شرفية، كانت قراءتي للإعلان أن الربيع قد حل مجددا هذه السنة؛ إنه سبتمبر شهر الخريف لكن الأبواب التي لاحت ربيعية خضراء بهيجة، كان حماسي خياليا وأنا أرى انفراجًا لهمومي من باب المجال الذي يمثل بالنسبة لي الشغف والمهارة، فمداعبة الحروف بأفكارِ ومشاعرِ الروحِ كان ميلي الواضح منذ صباي، وكان تفاؤلي حينها بما أقدر على تقديمه قويا فقادني لأكفر بالنسبية والاحتمالات التي تحكم الكون، فكنت أرى احتمال تفوقي على الجميع الفكرة الوحيدة والمطلقة.
لم أتردد بعد اطلاعي على الفرصة التي سيقت إلي سوقًا، في نفس اليوم الذي اطلعت فيه على إعلان المسابقة وشروطها وجوائزها؛ خطت أقلامي أولى الحروف على أوراقي ليبدأ مخاض ميلاد “رواية اللغز”، صممت على استغلال الهدية الربانية فرحت أكتب طيلة الأشهر اللاحقة معتمدًا على سيناريو مبدئيٍّ يتطور مع كل فصل وفقرة وحرف تُخلق خلاله فكرةً جديدة.
كانت الأشهر التالية مفعمة بالتفاؤل والنشاط وأنا أتخيلني ناجحًا مع كل نقطة أضعها على حرف من حروف ما ألّفته، لم يكن تفكيري يومها حول هل سأنجح أم سأفشل، بل طار إيماني إلى مراحل ما بعد نجاحي حول ما سأؤلفه بعد هذا النجاح وكأن تفوقي كان بديهيًّا. لقد أطلعت عديد الأصدقاء والأقارب والأساتذة من معارفي على ما خطته أناملي وقد باركوا كلهم ما أنجزته، لقد قيل لي بالحرف الواحد “مبارك لك الفوز!
من النور آخر النفق إلى الإحباط مجددًا
لم تتم الولادة، لقد فارق الجنين الحياة قبل أن يحيا …
وها هو ذا شهر ديسمبر من ذات السنة، كنت خلال الأشهر الماضية قد أنهيت عملي مؤمنا أن غيري ممن يشاركون في المسابقة هم يتنافسون على المركز الثاني، لقد أكملت التنسيق اللازم خلال هذا الشهر الذي يختم أشهر السنة ويختم معه أجل المسابقة، لم يتبق لي حينها سوى لمسات ومراجعات أخيرة تكفيها سويعات معدودة لإتمامها.
وذات يوم كنت بصحبة شلة من أبناء الحي ممن اعتدنا لعب الكرة معًا نمارس الرياضة الأكثر شعبية، قضيت هنالك وقتًا رياضيا ممتعا، لكن و قد هممت مغادرا اكتشفت لسوء الحظ وبعض البشر معًا.. أن هاتفي قد سُرق، أجل هاتفي أين كانت روايتي محفوظة هناك! وفي ديسمبر قبل أربع أيامٍ على انتهاء أجل المسابقة!
ودعت العام ٢٠١٨ ومعه المسابقة ومعهما فرصتي الذهبية ومعهم كلهم أملي وتفاؤلي، لقد آمنت منذ تلك اللحظة أن التفاؤل وهمٌ في عالم يحتمل الخيبات أكثر من النجاحات، وأن التشاؤم بما هو قادم يجنبني الإحباط الناتج عن أي خيبة تحل علي بعد كبير أملٍ أو عميق ثقة، لقد جعلني مغفل سرق هاتفي ليبيعه بمقابل لا يتعدى ٢٠ دولارًا أخسر عملي الذي رجوت منه الفوز بجائزة تفوق ٧٠٠ دولار، لقد كان ذلك فشلا أبعدني عن الكتابة وعن روايتي تلك وعن الانخراط في أي مسابقة أخرى طيلة السنوات اللاحقة، وكانت المرات القليلة التي كنت أكتب فيها شيئا؛ تحمل سخطًا ولعنًا وتأففًا من الواقع المعاش.
العمل أولا ثم التفاؤل بالنجاح
مرت سنوات جعلتني أتجاوز تلك الخيبة مستغنيًا أساسًا عن روايتي تلك، لقد اهتممت ببعض المحاولات الشعرية التي كنت ألقى من ورائها تشجيع المحيطين بي ليس أكثر، فلم أكن أرغب في نشر أي عملٍ آخر بعد أن خسرت بهدف قاتلٍ في الوقت البدل من ضائع.
مع أواخر العام ٢٠١٩، طلب مني أحد معارفي مساعدته في مراجعة وتدقيق روايته التي سيسعى لنشرها محققا غايته وأمرا تمناه أو حَلم به، للوهلة الأولى وقد ساعدته أحسست بأناملي تشكوني للأوراق مع كل حرف أخطه، لم تكن فترة انقطاعي عن كل شيء يتعلق بالكتابة الأدبية قد أنقصت من مداعبتي لأبجدٍ أو هَوز، لقد اكتشفت حينها أن علي بعد مساعدة صديقي أن أنطلق محاولاً إحياءَ المجد الضائع. أيام وانتهينا من تعديل ذاك العمل وبات مستعدًّا ليبصر النور، لكنني لم أخطو اتجاه روايتي أي خطوة في سبيل إعادة كتابتها، وظلت الثلاثين صفحة التي أعدت كتابتها في الأيام القليلة بعد ضياع هاتفي المحاولة اليائسة الأخيرة، لم أكن أرغب في استدانة أي مبلغ لأجل نشرها حين تكتمل كما جاء في نصيحة صديقي، لأني بعد ما حصل فقدت الثقة في تلك الرواية التي لم أعد أراها تجعل المنافسين يتسابقون من يصل ثانيُا، أيام تجر أسابيعَ وتغار الأشهر فتلحق بهما، وها نحن في عام ٢٠٢٠ مسجونين في بيوتنا، حالي كحال العالم الشاسع وجدت نفسي عاجزًا عن شغل أي عمل أو التوجه للجامعة، كانت فترة العزل تلك حرفيًّا مجرد فراغ لا أحصي فيه حتى أي يوم نحن فيه.
مرت الأشهر الأولى وأبلغني صديقي أن هناك دار نشر تقدم عرضًا مناسبا بأقل ثمن مقارنة بغيرهم وبمتابعةٍ وترويج جيد، أصر حينها أن علي الاستدانة لأجل المشاركة معه في نشر أعمالنا..، قادني في آخر المطاف تشجيعه وكذا الأقارب والمحيطين حولي بخوض تلك المغامرة مجددا ليبصر عملي النور، ما فتح عيني أكثر هو إدارة الدار ذاتها التي وافقت على توقيع عقد مع ثلاثين صفحة فحسب من الرواية، ونشرت إعلان إتمام العقد بتعبيرٍ: “تم التعاقد لأجل نشر رواية اللغز التي تعول عليها دار النشر لهذا الموسم”، فبدأت منذ حينها الكتابة وأعدت إنعاش الضائع من الموجود.
لم يكن لغز الرواية فحسب، لقد كان لغز الحياة..
انقضت سنة ٢٠٢٠، وها هي روايتي قد اكتملت ودقق عليها وما بقي للعروس سوى ثوبٍ يحاك على مقاسها، لقد أحسست في الأخير أن تلك الرواية علمتني الكثير في ثلاث(٠٣) سنوات، لقد جعلتني أعيش ثلاث(٠٣) مراحل حياتية، مراهق يأمل بلا مبالاة.. شاب يائس من الوضع..، ثم شيخ استراح أخيرا بعد كدِّ السنين.
اكتملت رواية اللغز التي شاع إهدائها دون معرفة صاحبه..
“إلى الوغد الذي سرق هاتفي أواخر عام ٢٠١٨ وكانت مخزنة فيه رواية اللغز مكتملة وجاهزة للمسابقة..
شكرا وتبا لك..
تبا لك لجعلي أغيب عن المسابقة وأعيد كتابة الرواية من الصفر
وشكرا لأني بسبب ذلك جعلتها أفضل
أما ذاك الهاتف ؛ فاللعنة لقد كان رخيص الثمن مثلك.”
إهداءٌ نشرته في إحدى المجموعات المهتمة بمشاركة كتابات الأعضاء، وعلى خلاف التفاعل الضئيل كان للإهداء الذي نشرته من باب مشاركة كتاباتي وقعًا أكبر، فقد كان الأصدقاء يخبرونني كل مرة أن كاتبًا معروفا وصله الإهداء ونشره وتارة أخرى أن القراء في المجموعات والمنتديات يتساءلون عن كاتب الإهداء وروايته، فارتحت أخيرا وأنا أرى أن محاولتي الثانية غطت الفشل الأول، وأنه حقًّا.. قد تيأس من قدرك لكن رسائل كونية ستجتمع ملقنة إياك دروسًا أن الفشل ليس الخسارة، وإنما هو الانسحاب..
اضف تعليق